فصل: تفسير الآيات رقم (1- 11)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


الجزء الرابع

سورة فاطر

مكية وآيها خمس وأربعون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏1‏)‏ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏2‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏3‏)‏ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏4‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏5‏)‏ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏الحمد للَّهِ فَاطِرِ السموات والأرض‏}‏ مبدعهما من الفطر بمعنى الشق كأنه شق العدم بإخراجهما منه، والإِضافة محضة لأنه بمعنى الماضي‏.‏ ‏{‏جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً‏}‏ وسائط بين الله وبين أنبيائه والصالحين من عباده، يبلغون إليهم رسالاته بالوحي والإِلهام والرؤيا الصادقة، أو بينه وبين خلقه يوصلون إليهم آثار صنعه‏.‏ ‏{‏أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مثنى وثلاث ورباع‏}‏ ذوي أجنحة متعددة متفاوتة بتفاوت ما لهم من المراتب ينزلون بها ويعرجون، أو يسرعون بها نحو ما وكلهم الله عليه فيتصرفون فيه على أمرهم به، ولعله لم يرد به خصوصية الإِعداد ونفي ما زال عليها، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام رأى جبريل ليلة المعراج وله ستمائة جناح ‏{‏يَزِيدُ فِى الخلق مَا يَشَاءُ‏}‏ استئناف للدلالة على أن تفاوتهم في ذلك بمقتضى مشيئته ومؤدى حكمته لا أمر تستدعيه ذواتهم، لأن اختلاف الأصناف، والأنواع بالخواص والفصول إن كان لذواتهم المشتركة لزم تنافي لوازم الأمور المتفقة وهو محال، والآية متناولة زيادات الصور والمعاني كملاحة الوجه وحسن الصوت وحصافة العقل وسماحة النفس‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ وتخصيص بعض الأشياء بالتحصيل دون بعض، إنما هو من جهة الإرادة‏.‏

‏{‏مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ‏}‏ ما يطلق لهم ويرسل وهو من تجوز السبب للمسبب‏.‏ ‏{‏مِن رَّحْمَةِ‏}‏ كنعمة وأمن وصحة وعلم ونبوة‏.‏ ‏{‏فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا‏}‏ يحبسها‏.‏ ‏{‏وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ‏}‏ يطلقه، واختلاف الضميرين لأن الموصول الأول مفسر بالرحمة والثاني مطلق بتناولها والغضب، وفي ذلك إشعار بأن رحمته سبقت غضبه‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِهِ‏}‏ من بعد إمساكه‏.‏ ‏{‏وَهُوَ العزيز‏}‏ الغالب على ما يشاء ليس لأحد أن ينازعه فيه‏.‏ ‏{‏الحكيم‏}‏ لا يفعل إلا بعلم وإتقان‏.‏ ثم لما بين أنه الموجد للملك والملكوت والمتصرف فيهما على الإِطلاق أمر الناس بشكر إنعامه فقال‏:‏

‏{‏يا أيها الناس اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ احفظوها بمعرفة حقها والاعتراف بها وطاعة موليها، ثم أنكر أن يكون لغيره في ذلك مدخل فيستحق أن يشرك به بقوله‏:‏ ‏{‏هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مّنَ السماء والأرض لاَ إله إِلاَّ هُوَ فأنى تُؤْفَكُونَ‏}‏ فمن أي وجه تصرفون عن التوحيد إلى إشراك غيره به، ورفع ‏{‏غَيْر‏}‏ للحمل على محل ‏{‏مِنْ خالق‏}‏ بأنه وصف أو بدل، فإن الاستفهام بمعنى النفي، أو لأنه فاعل ‏{‏خالق‏}‏ وجره حمزة والكسائي حملاً على لفظه، وقد نصب على الاستثناء، و‏{‏يَرْزُقُكُمْ‏}‏ صفة ل ‏{‏خالق‏}‏ أو استئناف مفسر له أو كلام مبتدأ، وعلى الأخير يكون إطلاق ‏{‏هَلْ مِنْ خالق‏}‏ مانعاً من إطلاقه على غير الله‏.‏

‏{‏وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ‏}‏ أي فتأس بهم في الصبر على تكذيبهم، فوضع ‏{‏فَقَدْ كُذّبَتْ‏}‏ موضعه استغناء بالسبب عن المسبب، وتنكير رسل للتعظيم المقتضي زيادة التسلية والحث على المصابرة‏.‏

‏{‏وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور‏}‏ فيجازيك وإياهم على الصبر والتكذيب‏.‏

‏{‏يا أيها الناس إِنَّ وَعْدَ الله‏}‏ بالحشر والجزاء‏.‏ ‏{‏حَقٌّ‏}‏ لا خلف فيه‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا‏}‏ فيذهلكم التمتع بها عن طلب الآخرة والسعي لها‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور‏}‏ الشيطان بأن يمنيكم المغفرة مع الإِصرار على المعصية، فإنها وإن أمكنت لكن الذنب بهذا التوقع كتناول السم اعتماداً على دفع الطبيعة‏.‏ وقرئ بالضم وهو مصدر أو جمع كقعود‏.‏

‏{‏إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ‏}‏ عداوة عامة قديمة‏.‏ ‏{‏فاتخذوه عَدُوّاً‏}‏ في عقائدكم وأفعالكم وكونوا على حذر منه في مجامع أحوالكم‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أصحاب السعير‏}‏ تقرير لعداوته وبيان لغرضه في دعوة شيعته إلى اتباع الهوى والركون إلى الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 11‏]‏

‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏7‏)‏ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ‏(‏8‏)‏ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ‏(‏9‏)‏ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ‏(‏10‏)‏ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ‏}‏ وعيد لمن أجاب دعاءه ووعد لمن خالفه وقطع للأماني الفارغة، وبناء للأمر كله على الإِيمان والعمل الصالح وقوله‏:‏

‏{‏أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً‏}‏ تقرير له أي أفمن زين له سوء عمله بأن غلب وهمه وهواه على عقله حتى انتكس رأيه فرأى الباطل حقاً والقبيح حسناً، كمن لم يزين له بل وفق حتى عرف الحق واستحسن الأعمال واستقبحها على ما هي عليه، فحذف الجواب لدلالة‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ‏}‏ وقيل تقديره أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرة، فحذف الجواب لدلالة‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات‏}‏ عليه ومعناه فلا تهلك نفسك عليهم للحسرات على غيهم وإصرارهم على التكذيب، والفاءات الثلاث للسببية غير أن الأوليين دخلتا على السبب والثالثة دخلت على المسبب، وجمع الحسرات للدلالة على تضاعف اغتمامه على أحوالهم أو كثرة مساوي أفعالهم المقتضية للتأسف، وعليهم ليس صلة لها لأن صلة المصدر لا تتقدمه بل صلة تذهب أو بيان للمتحسر عليه‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ‏}‏ فيجازيهم عليه‏.‏

‏{‏والله الذى أَرْسَلَ الرياح‏}‏ وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي الريح‏.‏ ‏{‏فَتُثِيرُ سحابا‏}‏ على حكاية الحال الماضية استحضاراً لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال الحكمة، ولأن المراد بيان أحداثها بهذه الخاصية ولذلك أسنده إليها، ويجوز أن يكون اختلاف الأفعال للدلالة على استمرار الأمر‏.‏ ‏{‏فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيّتٍ‏}‏ وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص بالتشديد‏.‏ ‏{‏فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض‏}‏ بالمطر النازل منه وذكر السحاب كذكره، أو بالسحاب فإنه سبب السبب أو الصائر مطراً‏.‏ ‏{‏بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ بعد يبسها والعدول فيهما من الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص لما فيهما من مزيد الصنع‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ النشور‏}‏ أي مثل إحياء الموات نشور الأموات في صحة المقدورية، إذ ليس بينهما إلا احتمال اختلاف المادة في المقيس عليه وذلك لا مدخل له فيها‏.‏ وقيل في كيفية الإِحياء فإنه تعالى يرسل ماء من تحت العرش تنبت منه أجساد الخلق‏.‏

‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ العزة‏}‏ الشرف والمنعة‏.‏ ‏{‏فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً‏}‏ أي فليطلبها من عنده فإن له كلها، فاستغنى بالدليل عن المدلول‏.‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ‏}‏ بيان لما يطلب به العزة وهو التوحيد والعمل الصالح، وصعودهما إليه مجاز عن قبوله إياهما، أو صعود الكتبة بصحيفتهما، والمستكن في ‏{‏يَرْفَعُهُ‏}‏ ل ‏{‏الكلم‏}‏ فإن العمل لا يقبل إلا بالتوحيد ويؤيده أنه نصب ‏{‏العمل‏}‏، أو ل ‏{‏العمل‏}‏ فإنه يحقق الإِيمان ويقويه، أو لله وتخصيص العمل بهذا الشرف لما فيه من الكلفة‏.‏ وقرئ ‏{‏يَصْعَدُ‏}‏ على البناءين والمصعد هو الله تعالى أو المتكلم به أو الملك‏.‏

وقيل ‏{‏الكلم الطيب‏}‏ يتناول الذكر والدعاء وقراءة القرآن‏.‏ وعنه عليه الصلاة والسلام ‏"‏ هو سبحان الله والحمد لله ولا إله لا الله والله أكبر، فإذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن، فإذا لم يكن عمل صالح لم تقبل ‏"‏‏.‏ ‏{‏والذين يَمْكُرُونَ‏}‏ المكرات السيئات يعني مكرات قريش للنبي عليه الصلاة والسلام في دار الندوة وتداورهم الرأي في إحدى ثلاث حبسه وقتله وإجلائه‏.‏ ‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏ لا يؤبه دونه بما يمكرون به‏.‏ ‏{‏وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ‏}‏ يفسد ولا ينفذ لأن الأمور مقدرة لا تتغير به كما دل عليه بقوله‏:‏

‏{‏والله خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ‏}‏ بخلق آدم عليه السلام منه‏.‏ ‏{‏ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ‏}‏ بخلق ذريته منها‏.‏ ‏{‏ثُمَّ جَعَلَكُمْ أزواجا‏}‏ ذكراناً وإناثاً‏.‏ ‏{‏وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ‏}‏ إلاَّ معلومة له‏.‏ ‏{‏وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ‏}‏ وما يمد في عمر من مصيره إلى الكبر‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ‏}‏ من عمر المعمر لغيره بأن يعطى له عمر ناقص من عمره، أو لا ينقص من عمر المنقوص عمره بجعله ناقصاً، والضمير له وإن لم يذكر لدلالة مقابله عليه أو للعمر على التسامح فيه ثقة بفهم السامع كقولهم‏:‏ لا يثيب الله عبداً ولا يعاقبه إلا بحق‏.‏ وقيل الزيادة والنقصان في عمر واحد باعتبار أسباب مختلفة أثبتت في اللوح مثل‏:‏ أن يكون فيه إن حج عمرو فعمره ستون سنة وإلا فأربعون‏.‏ وقيل المراد بالنقصان ما يمر من عمره وينقضي فإنه يكتب في صحيفة عمره يوماً فيوماً، وعن يعقوب «وَلاَ يُنقَصُ» على البناء للفاعل‏.‏ ‏{‏إِلاَّ فِى كتاب‏}‏ هو علم الله تعالى أو اللوح المحفوظ أو الصحيفة‏.‏ ‏{‏إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ‏}‏ إشارة إلى الحفظ أو الزيادة أو النقص‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 25‏]‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏12‏)‏ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ‏(‏13‏)‏ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ‏(‏14‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏15‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏16‏)‏ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏18‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ‏(‏19‏)‏ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ‏(‏20‏)‏ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ‏(‏21‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ‏(‏22‏)‏ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ‏(‏23‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ‏(‏24‏)‏ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِى البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ‏}‏ ضرب مثل للمؤمن والكافر، والفرات الذي يكسر العطش والسائغ الذي يسهل انحداره، والأجاج الذي يحرق بملوحته‏.‏ وقرئ «سيغ» بالتشديد و«سيغ» بالتخفيف و‏{‏مِلْحٌ‏}‏ على فعل‏.‏ ‏{‏وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا‏}‏ استطراد في صفة البحرين وما فيهما من النعم، أو تمام التمثيل والمعنى‏:‏ كما أنهما وإن اشتركا في بعض الفوائد لا يتساويان من حيث إنهما لا يتساويان فيما هو المقصود بالذات من الماء، فإنه خالط أحدهما ما أفسده وغيره عن كمال فطرته، لا يتساوى المؤمن والكافر وإن اتفق اشتراكهما في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة لاختلافهما فيما هو الخاصية العظمى وهي بقاء أحدهما على الفطرة الأصلية دون الآخر، أو تفضيل للأجاج على الكافر بما يشارك فيه العذب من المنافع‏.‏ والمراد ب ‏{‏الحلية‏}‏ اللآلئ واليواقيت‏.‏ ‏{‏وَتَرَى الفلك فِيهِ‏}‏ في كل‏.‏ ‏{‏مَوَاخِرَ‏}‏ تشق الماء بجريها‏.‏ ‏{‏لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ‏}‏ من فضل الله بالنقلة فيها، واللام متعلقة ب ‏{‏مَوَاخِرَ‏}‏، ويجوز أن تتعلق بما دل عليه الأفعال المذكورة‏.‏ ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ على ذلك وحرف الترجي باعتبار ما يقتضيه ظاهر الحال‏.‏

‏{‏يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ هي مدة دوره أو منتهاه أو يوم القيامة‏.‏ ‏{‏ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك‏}‏ الإِشارة إلى الفاعل لهذه الأشياء‏.‏ وفيها إشعار بأن فاعليته لها موجبة لثبوت الأخبار المترادفة، ويحتمل أن يكون ‏{‏لَهُ الملك‏}‏ كلاماً مبتدأ في قرآن‏.‏ ‏{‏والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ‏}‏ للدلالة على تفرده بالألوهية والربوبية، والقطمير لفافة النواة‏.‏

‏{‏إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءَكُمْ‏}‏ لأنهم جماد ‏{‏وَلَوْ سَمِعُواْ‏}‏ على سبيل الفرض‏.‏ ‏{‏مَا استجابوا لَكُمْ‏}‏ لعدم قدرتهم على الإِنفاع، أو لتبرئهم منكم مما تدعون لهم‏.‏ ‏{‏وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ‏}‏ بإشراككم لهم يقرون ببطلانه أو يقولون ‏{‏مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏{‏وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ‏}‏ ولا يخبرك بالأمر مخبر ‏{‏مِثْلُ خَبِيرٍ‏}‏ به أخبرك وهو الله سبحانه وتعالى، فإنه الخبير به على الحقيقة دون سائر المخبرين‏.‏ والمراد تحقيق ما أخبر به من حال آلهتهم ونفي ما يدعون لهم‏.‏

‏{‏يا أيها الناس أَنتُمُ الفقراء إِلَى الله‏}‏ في أنفسكم وما يعن لكم، وتعريف الفقراء للمبالغة في فقرهم كأنهم لشدة افتقارهم وكثرة احتياجهم هم الفقراء، وأن افتقار سائر الخلائق بالإِضافة إلى فقرهم غير معتد به ولذلك قال‏:‏ ‏{‏وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً‏}‏ ‏{‏والله هُوَ الغني الحميد‏}‏ المستغني على الإِطلاق المنعم على سائر الموجودات حتى استحق عليهم الحمد‏.‏

‏{‏إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ بقوم آخرين أطوع منكم، أو بعالم آخر غير ما تعرفونه‏.‏

‏{‏وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ‏}‏ بمتعذر أو متعسر‏.‏

‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى‏}‏ ولا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى، وأما قوله‏:‏ ‏{‏وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ‏}‏ ففي الضالين المضلين فإنهم يحملون أثقال إضلالهم مع أثقال ضلالهم، وكل ذلك أوزارهم ليس فيها شيء من أوزار غيرهم‏.‏ ‏{‏وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ‏}‏ نفس أثقلها الأوزار‏.‏ ‏{‏إلى حِمْلِهَا‏}‏ تحمل بعض أوزارها‏.‏ ‏{‏لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَئ‏}‏ لم تجب لحمل شيء منه نفى أن يحمل عنها ذنبها كما نفى أن يحمل عليها ذنب غيرها‏.‏ ‏{‏وَلَوْ كَانَ ذَا قربى‏}‏ ولو كان المدعو ذا قرابتها، فأضمر المدعو لدلالة إن تدع عليه‏.‏ وقرئ «ذو قربى» على حذف الخبر وهو أولى من جعل كان التامة فإنها لا تلائم نظم الكلام‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب‏}‏ غائبين عن عذابه، أو عن الناس في خلواتهم، أو غائباً عنهم عذابه‏.‏ ‏{‏وَأَقَامُواْ الصلاة‏}‏ فإنهم المنتفعون بالإِنذار لا غير، واختلاف الفعلين لما مر من الاستمرار‏.‏ ‏{‏وَمَن تزكى‏}‏ ومن تطهر من دنس المعاصي‏.‏ ‏{‏فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ‏}‏ إذ نفعه لها، وقرئ «ومن أزكى فإنما يزكي» وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم وإقامتهم الصلاة لأنهما من جملة التزكي‏.‏ ‏{‏وإلى الله المصير‏}‏ فيجازيهم على تزكيهم‏.‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِى الأعمى والبصير‏}‏ الكافر والمؤمن، وقيل هما مثلان للصنم ولله عز وجل‏.‏

‏{‏وَلاَ الظلمات وَلاَ النور‏}‏ ولا الباطل ولا الحق‏.‏

‏{‏وَلاَ الظل وَلاَ الحرور‏}‏ ولا الثواب ولا العقاب، ولا لتأكيد نفي الاستواء وتكريرها على الشقين لمزيد التأكيد‏.‏ و‏{‏الحرور‏}‏ فعول من الحر غلب على السموم‏.‏ وقيل السموم ما يهب نهاراً والحرور ما تهب ليلاً‏.‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِى الأحياء وَلاَ الأموات‏}‏ تمثيل آخر للمؤمنين والكافرين أبلغ من الأول ولذلك كرر الفعل‏.‏ وقيل للعلماء والجهلاء‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ‏}‏ هدايته فيوفقه لفهم آياته والاتعاظ بعظاته‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى القبور‏}‏ ترشيح لتمثيل المصرين على الكفر بالأموات ومبالغة في إقناطه عنهم‏.‏

‏{‏إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ‏}‏ فما عليك إلا الإِنذار وأما الإِسماع فلا إليك ولا حيلة لك إليه في المطبوع على قلوبهم‏.‏

‏{‏إِنَّا أرسلناك بالحق‏}‏ محقين أو محقاً، أو إرسالاً مصحوباً بالحق، ويجوز أن يكون صلة لقوله‏:‏ ‏{‏بَشِيراً وَنَذِيراً‏}‏ أي بشيراً بالوعد الحق ونذيراً بالوعيد الحق‏.‏ ‏{‏وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ‏}‏ أهل عصر‏.‏ ‏{‏إِلاَّ خَلاَ‏}‏ مضى‏.‏ ‏{‏فِيهَا نَذِيرٌ‏}‏ من نبي أو عالم ينذر عنه، والاكتفاء بذكره للعلم بأن النذارة قرينة البشارة سيما وقد قرن به من قبل، أو لأن الإِنذار هو الأهم المقصود من البعثة‏.‏

‏{‏وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات‏}‏ بالمعجزات الشاهدة على نبوتهم‏.‏ ‏{‏وبالزبر‏}‏ كصحف إبراهيم عليه السلام‏.‏ ‏{‏وبالكتاب المنير‏}‏ كالتوراة والإِنجيل على إرادة التفصيل دون الجمع، ويجوز أن يراد بهما واحد والعطف لتغاير الوصفين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 33‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏26‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ‏(‏27‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ‏(‏28‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ‏(‏29‏)‏ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏30‏)‏ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ‏(‏31‏)‏ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ‏(‏32‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ أَخَذْتُ الذين كَفَرُواْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏}‏ أي إنكار بالعقوبة‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا‏}‏ أجناسها وأصنافها على أن كلا منها ذو أصناف مختلفة، أو هيئاتها من الصفرة والخضرة ونحوهما‏.‏ ‏{‏وَمِنَ الجبال جُدَدٌ‏}‏ أي ذو جدد أي خطط وطرائق يقال جدة الحمار للخطة السوداء على ظهره، وقرئ «جُدَدٌ» بالضم جمع جديدة بمعنى الجدة و«جُدَدٌ» بفتحتين وهو الطريق الواضح‏.‏ ‏{‏بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانها‏}‏ بالشدة والضعف‏.‏ ‏{‏وَغَرَابِيبُ سُودٌ‏}‏ عطف على ‏{‏بَيْضٌ‏}‏ أو على ‏{‏جُدَدٌ‏}‏ كأنه قيل‏:‏ ومن الجبال ذو جدد مختلفة اللون ومنها ‏{‏غرابيب‏}‏ متحدة اللون، وهو تأكيد مضمر يفسره ما بعده فإن الغربيب تأكيد للأسود ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد ونظير ذلك في الصفة قول النابغة‏:‏

وَالمُؤْمِنُ العَائِذَاتُ الطَيْرُ يَمْسَحُهَا *** وفي مثله مزيد تأكيد لما فيه من التكرير باعتبار الإِضمار والإِظهار‏.‏

‏{‏وَمِنَ الناس والدواب والأنعام مُخْتَلِفٌ ألوانه كَذَلِكَ‏}‏ كاختلاف الثمار والجبال‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء‏}‏ إذ شرط الخشية معرفة المخشي والعلم بصفاته وأفعاله، فمن كان أعلم به كان أخشى منه ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ إني أخشاكم لله وأتقاكم له ‏"‏ ولذلك أتبعه بذكر أفعاله الدالة على كمال قدرته، وتقديم المفعول لأن المقصود حصر الفاعلية ولو أخر انعكس الأمر‏.‏ وقرئ برفع اسم الله ونصب العلماء على أن الخشية مستعارة للتعظيم فإن المعظم يكون مهيباً‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ‏}‏ تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب للمصر على طغيانه غفور للتائب عن عصيانه‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله‏}‏ يداومون على قرائته أو متابعة ما فيه حتى صارت سمة لهم وعنواناً، والمراد بكتاب الله القرآن أو جنس كتب الله فيكون ثناء على المصدقين من الأمم بعد اقتصاص حال المكذبين‏.‏ ‏{‏وَأَقَامُواْ الصلاة وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَةً‏}‏ كيف اتفق من غير قصد إليهما‏.‏ وقيل السر في المسنونة والعلانية في المفروضة‏.‏ ‏{‏يَرْجُونَ تجارة‏}‏ تحصيل ثواب الطاعة وهو خبر إن‏.‏ ‏{‏لَّن تَبُورَ‏}‏ لن تكسد ولن تهلك بالخسران صفة للتجارة وقوله‏:‏

‏{‏لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ‏}‏ علة لمدلوله أي ينتفي عنها الكساد وتنفق عند الله ليوفيهم بنفاقها أجور أعمالهم، أو لمدلول ما عد من امتثالهم نحو فعلوا ذلك ‏{‏لِيُوَفّيَهُمْ‏}‏ أو عاقبة ل ‏{‏يَرْجُونَ‏}‏‏.‏ ‏{‏وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ‏}‏ على ما يقابل أعمالهم‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ غَفُورٌ‏}‏ لفرطاتهم‏.‏ ‏{‏شَكُورٍ‏}‏ لطاعاتهم أي مجازيهم عليها، وهو علة للتوفية والزيادة أو خبر إن ويرجون حال من واو وأنفقوا‏.‏

‏{‏والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكتاب‏}‏ يعني القرآن و‏{‏مِنْ‏}‏ للتبيين أو الجنس و‏{‏مِنْ‏}‏ للتبعيض‏.‏ ‏{‏هُوَ الحق مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ أحقه مصدقاً لما تقدمه من الكتب السماوية حال مؤكدة لأن حقيته تستلزم موافقته إياه في العقائد وأصول الأحكام‏.‏

‏{‏إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ‏}‏ عالم بالبواطن والظواهر فلو كان في أحوالك ما ينافي النبوة لم يوح إليك مثل هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب، وتقديم الخبير للدلالة على أن العمدة في ذلك الأمور الروحانية‏.‏

‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب‏}‏ حكمنا بتوريثه منك أو نورثه فعبر عنه بالماضي لتحققه، أو أورثناه من الأمم السالفة، والعطف على ‏{‏إِنَّ الذين يَتْلُونَ‏}‏ ‏{‏والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ اعتراض لبيان كيفية التوريث‏.‏ ‏{‏الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا‏}‏ يعني علماء الأمة من الصحابة ومن بعدهم، أو الأمة بأسرهم فإن الله اصطفاهم على سائر الأمم ‏{‏فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ‏}‏ بالتقصير في العمل به‏.‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ‏}‏ يعمل به في غالب الأوقات‏.‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله‏}‏ بضم التعليم والإِرشاد إلى العمل، وقيل الظالم الجاهل والمقتصد المتعلم والسابق العالم‏.‏ وقيل الظالم المجرم والمقتصد الذي خلط الصالح بالسيء والسابق الذي ترجحت حسناته بحيث صارت سيئاته مكفرة، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ أما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حساباً يسيراً، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم يتلقاهم الله برحمته ‏"‏ وقيل الظالم الكافر على أن الضمير للعباد، وتقدميه لكثرة الظالمين ولأن الظلم بمعنى الجهل والركون إلى الهوى مقتضى الجبلة والاقتصاد والسبق عارضان‏.‏ ‏{‏ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير‏}‏ إشارة إلى التوريث أو الاصطفاء أو السبق‏.‏

‏{‏جنات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا‏}‏ مبتدأ وخبر والضمير للثلاثة أو ل ‏{‏الذين‏}‏ أو لل ‏{‏مُّقْتَصِدٌ‏}‏ وال ‏{‏سَابِقُ‏}‏، فإن المراد بهما الجنس وقرئ «جنة عدن» و‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ منصوب بفعل يفسره الظاهر، وقرأ أبو عمرو «يَدْخُلُونَهَا» على البناء للمفعول‏.‏ ‏{‏يُحَلَّوْنَ فِيهَا‏}‏ خبر ثان أو حال مقدرة، وقرئ «يُحَلَّوْنَ» من حليت المرأة فهي حالية‏.‏ ‏{‏مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ‏}‏ ‏{‏مِنْ‏}‏ الأولى للتبعيض والثانية للتبيين‏.‏ ‏{‏وَلُؤْلُؤاً‏}‏ عطف على ‏{‏ذَهَبَ‏}‏ أي ‏{‏مّن ذَهَبٍ‏}‏ مرصع باللؤلؤ، أو ‏{‏مّن ذَهَبٍ‏}‏ في صفاء اللؤلؤ ونصبه نافع وعاصم رحمهما الله تعالى عطفاً على محل ‏{‏مِنْ أَسَاوِرَ‏}‏‏.‏ ‏{‏وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 41‏]‏

‏{‏وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏34‏)‏ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ‏(‏35‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ‏(‏36‏)‏ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ‏(‏37‏)‏ إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏38‏)‏ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏39‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا ‏(‏40‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن‏}‏ همهم من خوف العاقبة، أو همهم من أجل المعاش وآفاته أو من وسوسة إبليس وغيرها، وقرئ ‏{‏الحزن‏}‏‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ‏}‏ للمذنبين‏.‏ ‏{‏شَكُورٍ‏}‏ للمطيعين‏.‏

‏{‏الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة‏}‏ دار الإِقامة‏.‏ ‏{‏مِن فَضْلِهِ‏}‏ من إنعامه وتفضله إذ لا واجب عليه‏.‏ ‏{‏لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ‏}‏ تعب‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ‏}‏ كلا إذ لا تكليف فيها ولا كد، أتبع نفي النصب نفي ما يتبعه مبالغة‏.‏

‏{‏والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ‏}‏ لا يحكم عليهم بموت ثان‏.‏ ‏{‏فَيَمُوتُواْ‏}‏ فيتسريحوا، ونصبه بإضمار أن، وقرئ «فيموتون» عطفاً على ‏{‏يقضى‏}‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ‏}‏ ‏{‏وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا‏}‏ بل كلما خبت زيد إسعارها‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏ مثل ذلك الجزاء‏.‏ ‏{‏نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ‏}‏ مبالغ في الكفر أو الكفران، وقرأ أبو عمرو «يجزى» على بناء المفعول وإسناده إلى ‏{‏كُلٌّ‏}‏، وقرى «يجازي»‏.‏

‏{‏وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا‏}‏ يستغيثون يفتعلون من الصراخ وهو الصياح استعمل في الاستغاثة لجهر المستغيث صوته‏.‏ ‏{‏رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ‏}‏ بإضمار القول وتقييد العمل الصالح بالوصف المذكور للتحسر على ما عملوه من غير الصالح والاعتراف به، والإشعار بأن استخراجهم لتلافيه وأنهم كانوا يحسبون أنه صالح والآن تحقق لهم خلافه‏.‏ ‏{‏أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النذير‏}‏ جواب من الله وتوبيخ لهم و‏{‏مَّا يَتَذَكَّرُ‏}‏ فيه متناول كل عمر يمكن المكلف فيه من التفكر والتذكر، وقيل ما بين العشرين إلى الستين‏.‏ وعنه عليه الصلاة والسلام ‏"‏ العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة ‏"‏ والعطف على معنى ‏{‏أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ‏}‏ فإنه للتقرير كأنه قال‏:‏ عمرناكم وجاءكم النذير وهو النبي صلى الله عليه وسلم أو الكتاب، وقيل العقل أو الشيب أو موت الأقارب‏.‏ ‏{‏فَذُوقُواْ فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ‏}‏ يدفع العذاب عنهم‏.‏

‏{‏إِنَّ الله عالم غَيْبِ السموات والأرض‏}‏ لا يخفى عليه خافية فلا يخفى عليه أحوالهم‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ تعليل له لأنه إذا علم مضمرات الصدور وهي أخفى ما يكون كان أعلم بغيرها‏.‏

‏{‏هُوَ الذى جَعَلَكُمْ خلائف فِى الأرض‏}‏ ملقى إليكم مقاليد التصرف فيها، وقيل خلفاً بعد خلف جمع خليفة والخلفاء جمع خليف‏.‏ ‏{‏فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ‏}‏ جزاء كفره‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً‏}‏ بيان له، والتكرير للدلالة على عن اقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين مستقل باقتضاء قبحه ووجوب التجنب عنه، والمراد بالمقت وهو أشد البغض مقت الله وبالخسار خسار الآخرة‏.‏

‏{‏قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ يعني آلهتهم والإِضافة إليهم لأنهم جعلوهم شركاء الله أو لأنفسهم فيما يملكونه‏.‏

‏{‏أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض‏}‏ بدل من ‏{‏أَرَءَيْتُمْ‏}‏ بدل الاشتمال لأنه بمعنى أخبروني كأنه قال‏:‏ أخبروني عن هؤلاء الشركاء أروني أي جزء من الأرض استبدوا بخلقه‏.‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السموات‏}‏ أم لهم شركة مع الله في خلق السموات فاستحقوا بذلك شركة في الألوهية ذاتية‏.‏ ‏{‏أَمْ ءَاتَيْنَاهُم كِتَاباً‏}‏ ينطق على أنا اتخذناهم شركاء‏.‏ ‏{‏فَهُمْ على بَيّنَةٍ مّنْهُ‏}‏ على حجة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة جعلية، ويجوز أن يكون هم للمشركين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا‏}‏ وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب وأبو بكر والكسائي «على بينات» فيكون إيماء إلى أن الشرك خطير لا بد فيه من تعاضد الدلائل‏.‏ ‏{‏بَلْ إِن يَعِدُ الظالمون بَعْضُهُم إِلاَّ غُرُوراً‏}‏ لما نفى أنواع الحجج في ذلك أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه وهو تغرير الأسلاف الأخلاف، أو الرؤساء الأتباع بأنهم شفعاء عند الله يشفعون لهم بالتقرب إليه‏.‏

‏{‏إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض أَن تَزُولاَ‏}‏ كراهة أن تزولا فإن الممكن حال بقائه لا بد له من حافظ، أو يمنعهما أن تزولا لأن الإِمساك منع‏.‏ ‏{‏وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ‏}‏ ما أمسكهما‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِهِ‏}‏ من بعد الله أو من بعد الزوال، والجملة سادة مسد الجوابين ومن الأولى زائدة والثانية للابتداء‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا‏}‏ حيث أمسكهما وكانتا جديرتين بأن تهدا هداً كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض‏.‏‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 45‏]‏

‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا ‏(‏42‏)‏ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ‏(‏43‏)‏ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ‏(‏44‏)‏ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم‏}‏‏.‏ وذلك أن قريشاً لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا‏:‏ لعن الله اليهود والنصارى لو أتانا رسول لنكونن ‏{‏أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم‏}‏، أي من واحدة من الأمم اليهود والنصارى وغيرهم، أو من الأمة التي يقال فيها هي ‏{‏إِحْدَى الأمم‏}‏ تفضيلاً لها على غيرها في الهدى والاستقامة‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ‏}‏ يعني محمداً عليه الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏مَّا زَادَهُمْ‏}‏ أي النذير أو مجيئه على التسبب‏.‏ ‏{‏إِلاَّ نُفُورًا‏}‏ تباعداً عن الحق‏.‏

‏{‏استكبارا فِى الأرض‏}‏ بدل من نفوراً أو مفعول له‏.‏ ‏{‏وَمَكْرَ السيئ‏}‏ أصله وإن مكروا المكر السيء فحذف الموصوف استغناء بوصفه، ثم بدل أن مع الفعل بالمصدر، ثم أضيف‏.‏ وقرأ حمزة وحده بسكون الهمزة في الوصل‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَحِيقُ‏}‏ ولا يحيط‏.‏ ‏{‏المكر السيئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ‏}‏ وهو الماكر وقد حاق بهم يوم بدر، وقرئ ‏{‏وَلاَ يَحِيقُ المكر‏}‏ أي ولا يحيق الله‏.‏ ‏{‏فَهَلْ يَنظُرُونَ‏}‏ ينتظرون‏.‏ ‏{‏إِلا سُنَّتُ الأولين‏}‏ سنة الله فيهم بتعذيب مكذبيهم‏.‏ ‏{‏فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلاً‏}‏ إذ لا يبدلها بجعله غير التعذيب تعذيباً ولا يحولها بأن ينقله من المكذبين إلى غيرهم، وقوله‏:‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ استشهاد علم بما يشاهدونه في مسايرهم إلى الشام واليمن والعراق من آثار الماضين‏.‏ ‏{‏وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَئ‏}‏ ليسبقه ويفوته‏.‏ ‏{‏فِي السموات وَلاَ فِى الأرض إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً‏}‏ بالأشياء كلها‏.‏ ‏{‏قَدِيراً‏}‏ عليها‏.‏

‏{‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ‏}‏ من المعاصي‏.‏ ‏{‏مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا‏}‏ ظهر الأرض ‏{‏مِن دَابَّةٍ‏}‏ من نسمة تدب عليها بشؤم معاصيهم، وقيل المراد بالدابة الإِنس وحده لقوله‏:‏ ‏{‏ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى‏}‏ هو يوم القيامة‏.‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً‏}‏ فيجازيهم على أعمالهم‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الملائكة دعته ثمانية أبواب الجنة‏:‏ أن أدخل من أي باب شئت»‏.‏

سورة يس

مكية وعنه عليه الصلاة والسلام ‏"‏ يس تدعى المعمة تعم صاحبها خير الدارين والدافعة والقاضية تدفع عنه كل سوء وتقضي له كل حاجة ‏"‏ وآيها ثلاث وثمانون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏يس ‏(‏1‏)‏ وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏3‏)‏ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏4‏)‏ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ‏(‏5‏)‏ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ‏(‏6‏)‏ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏7‏)‏ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ‏(‏8‏)‏ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏9‏)‏ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏10‏)‏ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏يس‏}‏ في المعنى والإِعراب، وقيل معناه يا إنسان بلغة طيء، على أن أصله يا أنيسين فاقتصر على شطره لكثرة النداء به كما قيل ‏(‏من الله‏)‏ في أيمن‏.‏ وقرئ بالكسر كجير وبالفتح على البناء كأين، أو الإِعراب على اتل يس أو بإضمار حرف القسم والفتحة لمنع الصرف وبالضم بناء كحيث، أو إعراباً على هذه ‏{‏يس‏}‏ وأمال الياء حمزة والكسائي وروح وأبو بكر وأدغم النون في واو‏.‏

‏{‏والقرءان الحكيم‏}‏ ابن عامر والكسائي وأبو بكر وورش ويعقوب، وهي واو القسم أو العطف إن جعل ‏{‏يس‏}‏ مقسماً به‏.‏

‏{‏إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين‏}‏ لمن الذين أرسلوا‏.‏

‏{‏على صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ وهو التوحيد والإِستقامة في الأمور، ويجوز أن يكون ‏{‏على صراط‏}‏ خبراً ثانياً أو حالاً من المستكن في الجار والمجرور، وفائدته وصف الشرع صريحاً بالاستقامة وإن دل عليه ‏{‏لَمِنَ المرسلين‏}‏ التزاماً‏.‏

‏{‏تَنزِيلَ العزيز الرحيم‏}‏ خبر محذوف والمصدر بمعنى المفعول‏.‏ وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص بالنصب بإضمار أعني أو فعله على أنه على أصله، وقرئ بالجر على البدل من القرآن‏.‏

‏{‏لِتُنذِرَ قَوْماً‏}‏ متعلق ب ‏{‏تَنزِيلَ‏}‏ أو بمعنى ‏{‏لَمِنَ المرسلين‏}‏‏.‏ ‏{‏مَّا أُنذِرَ ءَابَاؤُهُمْ‏}‏ قوماً غير منذر آباؤهم يعني آباءَهم الأقربين لتطاول مدة الفترة، فيكون صفة مبينة لشدة حاجتهم إلى إرساله، أو الذي أنذر به أو شيئاً أنذر به آباؤهم الأبعدون، فيكون مفعولاً ثانياً ‏{‏لّتُنذِرَ‏}‏، أو إنذار آبائَهم على المصدر‏.‏ ‏{‏فَهُمْ غافلون‏}‏ متعلق بالنفي على الأول أي لم ينذروا فبقوا غافلين، أو بقوله ‏{‏إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين‏}‏ على الوجوه الأخرى أي أرسلناك إليهم لتنذرهم فإنهم غافلون‏.‏

‏{‏لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ‏}‏ يعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏{‏فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ لأنهم ممن علم الله أنهم لا يؤمنون‏.‏

‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا فِى أعناقهم أغلالا‏}‏ تقرير لتصميمهم على الكفر والطبع على قلوبهم بحيث لا تغني عنهم الآيات والنذر، بتمثيلهم بالذين غلت أعناقهم‏.‏ ‏{‏فَهِىَ إِلَى الأذقان‏}‏ فالأغلال واصلة إلى أذقانهم فلا تخليهم يطأطئون رؤوسهم له‏.‏ ‏{‏فَهُم مُّقْمَحُونَ‏}‏ رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم في أنهم لا يلتفتون لفت الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطئون رؤوسهم له‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فأغشيناهم فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ‏}‏ وبمن أحاط بهم سدان فغطى أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم ووراءهم في أنهم محبوسون في مطمورة الجهالة ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص «سَدّا» بالفتح وهو لغة فيه، وقيل ما كان بفعل الناس فبالفتح وما كان بخلق الله فبالضم‏.‏

وقرئ «فأعشيناهم» من العشاء‏.‏ وقيل الآيتان في بني مخزوم حلف أبو جهل أن يرضخ رأس النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه، فلما رفع يده انثنت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد، فرجع إلى قومه فأخبرهم، فقال مخزومي آخر‏:‏ أنا أقتله بهذا الحجر فذهب فأعمى الله بصره‏.‏

‏{‏وَسَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَءَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ‏}‏ سبق في سورة «البقرة» تفسيره‏.‏

‏{‏إِنَّمَا تُنذِرُ‏}‏ إنذاراً يترتب عليه البغية المرومة‏.‏ ‏{‏مَنِ اتبع الذكر‏}‏ أي القرآن بالتأمل فيه والعمل به‏.‏ ‏{‏وَخشِىَ الرحمن بالغيب‏}‏ وخاف عقابه قبل حلوله ومعاينة أهواله، أو في سريرته ولا يغتر برحمته فإنه كما هو رحمن، منتقم قهار‏.‏ ‏{‏فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 19‏]‏

‏{‏إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ‏(‏12‏)‏ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ‏(‏13‏)‏ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ‏(‏14‏)‏ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ‏(‏15‏)‏ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ‏(‏16‏)‏ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏17‏)‏ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏18‏)‏ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى‏}‏ الأموات بالبعث أو الجهال بالهداية‏.‏ ‏{‏وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ‏}‏ ما أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة‏.‏ ‏{‏وَءَاثَارَهُمْ‏}‏ الحسنة كعلم علموه وحبيس وقفوه، والسيئة كإشاعة باطل وتأسيس ظلم‏.‏ ‏{‏وَكُلَّ شئ أحصيناه فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ‏}‏ يعني اللوح المحفوظ‏.‏

‏{‏واضرب لَهُم‏}‏ ومثل لهم من قولهم هذه الأشياء على ضرب واحد أي مثال واحد، وهو يتعدى إلى مفعولين لتضمنه معنى الجعل وهما‏:‏ ‏{‏مَّثَلاً أصحاب القرية‏}‏ على حذف مضاف أي اجعل لهم مثل أصحاب القرية مثلاً، ويجوز أن يقتصر على واحد ويجعل المقدر بدلاً من الملفوظ أو بياناً له، والقرية انطاكية‏.‏ ‏{‏إِذْ جَاءَهَا المرسلون‏}‏ بدل من أصحاب القرية، و‏{‏المرسلون‏}‏ رسل عيسى عليه الصلاة والسلام إلى أهلها وإضافته إلى نفسه في قوله‏:‏

‏{‏إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين‏}‏ لأنه فعل رسوله وخليفته وهما يحيى ويونس، وقيل غيرهما‏.‏ ‏{‏فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا‏}‏ فقوينا، وقرأ أبو بكر مخففاً من عزه إذا غلبه وحذف المفعول لدلالة ما قبله عليه ولأن المقصود ذكر المعزز به‏.‏ ‏{‏بِثَالِثٍ‏}‏ وهو شمعون‏.‏ ‏{‏فَقَالُواْ إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ‏}‏ وذَلِكَ أنهم كانوا عبدة أصنام فأرسل إليهم عيسى عليه السلام اثنين، فلما قربا من المدينة رأيا حبيباً النجار يرعى غنماً فسألهما فأخبراه فقال‏:‏ أمعكما آية فقالا‏:‏ نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص، وكان له ولد مريض فمسحاه فبرأ فآمن حبيب وفشا الخبر، فشفي على أيديهما خلق كثير وبلغ حديثهما إلى الملك وقال لهما‏:‏ ألنا إله سوى آلهتنا‏؟‏

قالا‏:‏ نعم من أوجدك وآلهتك، قال حتى أنظر في أمركما فحبسهما، ثم بعث عيسى شمعون فدخل متنكراً وعاشر أصحاب الملك حتى استأنسوا به وأوصلوه إلى الملك فأنس به، فقال له يوماً‏:‏ سمعت أنك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولانه، قال فدعاهما فقال شمعون من أرسلكما قالا‏:‏ الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك، فقال صفاه وأوجزا، قالا‏:‏ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، قال وما آيتكما، قالا‏:‏ ما يتمنى الملك، فدعا بغلام مطموس العينين فدعوا الله حتى انشق له بصره، وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين ينظر بهما، فقال شمعون أرأيت لو سألت آلهتك حتى تصنع مثل هذا حتى يكون لك ولها الشرف، قال ليس لي عنك سر آلهتنا لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع، ثم قال إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به، فأتوا بغلام مات منذ سبعة أيام فدعوا الله فقام وقال‏:‏ إني أدخلت في سبعة أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا، وقال فتحت أبواب السماء فرأيت شاباً حسناً يشفع لهؤلاء الثلاثة فقال الملك من هم قال شمعون وهذان فلما رأى شمعون أن قوله قد أثر فيه نصحه فآمن في جمع، ومن لم يؤمن صاح عليهم جبريل عليه الصلاة والسلام فهلكوا‏.‏

‏{‏قَالُواْ مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا‏}‏ لا مزية لكم علينا تقتضي اختصاصكم بما تدعون، ورفع بشر لانتقاض النفي المقتضي إعمال ما بإلا‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنَزلَ الرحمن مِن شَئ‏}‏ وحي ورسالة‏.‏ ‏{‏إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ‏}‏ في دعوى الرسالة‏.‏

‏{‏قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ‏}‏ استشهدوا بعلم الله وهو يجري مجرى القسم، وزادوا اللام المؤكدة لأنه جواب عن إنكارهم‏.‏

‏{‏وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ البلاغ المبين‏}‏ الظاهر البين بالآيات الشاهدة لصحته، وهو المحسن للاستشهاد فإنه لا يحسن إلا ببينة‏.‏

‏{‏قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ‏}‏ تشاءمنا بكم، وذلك لاستغرابهم ما ادعوه واستقباحهم له وتنفرهم عنه‏.‏ ‏{‏لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ‏}‏ عن مقالتكم هذه‏.‏ ‏{‏لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏قَالُواْ طائركم مَّعَكُمْ‏}‏ سبب شؤمكم معكم وهو سوء عقيدتكم وأعمالكم، وقرئ «طيركم معكم»‏.‏ ‏{‏أَئِن ذُكّرْتُم‏}‏ وعظتم، وجواب الشرط محذوف مثل تطيرتم أو توعدتم بالرجم والتعذيب، وقد قرئ بألف بين الهمزتين وبفتح أن بمعنى أتطيرتم لأن ذكرتم وأن بغير الاستفهام و«أين ذكرتم» بمعنى طائركم معكم حيث جرى ذكركم وهو أبلغ‏.‏ ‏{‏بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ‏}‏ قوم عادتكم الإِسراف في العصيان فمن ثم جاءكم الشؤم، أو في الضلال ولذلك توعدتم وتشاءمتم بمن يجب أن يكرم ويتبرك به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 30‏]‏

‏{‏وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ‏(‏20‏)‏ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏22‏)‏ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ ‏(‏23‏)‏ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏24‏)‏ إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ‏(‏25‏)‏ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ‏(‏27‏)‏ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ ‏(‏28‏)‏ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ‏(‏29‏)‏ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى‏}‏ هو حبيب النجار وكان ينحت أصنامهم وهو ممن آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام وبينهما ستمائة سنة، وقيل كان في غار يعبد الله فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه‏.‏ ‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ اتبعوا المرسلين‏}‏‏.‏

‏{‏اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً‏}‏ على النصح وتبليغ الرسالة‏.‏ ‏{‏وَهُمْ مُّهْتَدُونَ‏}‏ إلى خير الدارين‏.‏

‏{‏وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى‏}‏ على قراءة غير حمزة فإنه يسكن الياء في الوصل، تلطف في الإِرشاد بإيراده في معرض المناصحة لنفسه وإمحاض النصح، حيث أراد لهم ما أراد لها والمراد تقريعهم على تركهم عبادة خالقهم إلى عبادة غيره ولذلك قال‏:‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ مبالغة في التهديد ثم عاد إلى المساق الأول فقال‏:‏

‏{‏أَءَتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرّ لاَّ تُغْنِ عَنّي شفاعتهم شَيْئاً‏}‏ لا تنفعني شفاعتهم‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُنقِذُونَ‏}‏ بالنصرة والمظاهرة‏.‏

‏{‏إِنِّى إِذاً لَّفِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ فإن إيثار ما لا ينفع ولا يدفع ضراً بوجه ما على الخالق المقتدر على النفع والضر وإشراكه به ضلال بين لا يخفى على عاقل، وقرأ نافع ويعقوب وأبو عمرو بفتح الياء‏.‏

‏{‏إِنِّي ءَامَنتُ بِرَبّكُمْ‏}‏ الذي خلقكم، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء‏.‏ ‏{‏فاسمعون‏}‏ فاسمعوا إيماني، وقيل الخطاب للرسل فإنه لما نصح قومه أخذوا يرجمونه فأسرع نحوهم قبل أن يقتلوه‏.‏

‏{‏قِيلَ ادخل الجنة‏}‏ قيل له ذلك لما قتلوه بشرى له بأنه من أهل الجنة، أو إكراماً وإذناً في دخولها كسائر الشهداء، أو لما هموا بقتله رفعه الله إلى الجنة على ما قاله الحسن وإنما لم يقل له لأن الغرض بيان المقول دون المقول له فإنه معلوم، والكلام استئناف في حيز الجواب عن السؤال عن حاله عند لقاء ربه بعد تصلبه في نصر دينه وكذلك‏:‏ ‏{‏قَالَ ياليت قَوْمِى يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏بِمَا غَفَرَ لِي رَبّي وَجَعَلَنِي مِنَ المكرمين‏}‏ فإنه جواب عن السؤال عن قوله عند ذلك القول، وإنما تمنى علم قومه بحاله ليحملهم على اكتساب مثلها بالتوبة عن الكفر والدخول في الإِيمان والطاعة على دأب الأولياء في كظم الغيظ والترحم على الأعداء، أو ليعلموا أنهم كانوا على خطأ عظيم في أمره وأنه كان على حق، وقرئ ‏{‏المكرمين‏}‏ و«ما» خبرية أو مصدرية والباء صلة ‏{‏يَعْلَمُونَ‏}‏ أو استفهامية جاء على الأصل، والباء صلة غفر أي بأي شيء ‏{‏غَفَرَ‏}‏ لي، يريد به المهاجرة عن دينهم والمصابرة على أذيتهم‏.‏

‏{‏وَمَا أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ‏}‏ من بعد هلاكه أو رفعه‏.‏ ‏{‏مِن جُندٍ مّنَ السماء‏}‏ لإِهلاكهم كما أرسلنا يوم بدر والخندق بل كفينا أمرهم بصيحة ملك، وفيه استحقار لإِهلاكهم وإيماء بتعظيم الرسول عليه السلام‏.‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ‏}‏ وما صح في حكمتنا أن ننزل جنداً لإِهلاك قومه إذ قدرنا لكل شيء سبباً وجعلنا ذلك سبباً لانتصارك من قومك، وقيل ‏{‏مَا‏}‏ موصولة معطوفة على ‏{‏جُندٌ‏}‏ أي ومما كنا منزلين على من قبلهم من حجارة وريح وأمطار شديدة‏.‏

‏{‏إِن كَانَتْ‏}‏ ما كانت الأخذة أو العقوبة‏.‏ ‏{‏إِلاَّ صَيْحَةً واحدة‏}‏ صاح بها جبريل عليه السلام، وقرئت بالرفع على كان التامة‏.‏ ‏{‏فَإِذَا هُمْ خامدون‏}‏ ميتون، شبهوا بالنار رمزاً إلى أن الحي كالنار الساطعة والميت كرمادها كما قال لبيد‏:‏

وَمَا المَرْءُ إِلاَّ كَالشّهَابِ وَضَوْئِه *** يَحُورُ رَمَاداً بَعْدَ إِذْ هُوَ سَاطِعُ

‏{‏ياحسرة عَلَى العباد‏}‏ تعالي فهذه من الأحوال التي من حقها أن تحضري فيها، وهي ما دل عليها‏:‏ ‏{‏مَا يَأْتِيهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئونَ‏}‏ فإن المستهزئين بالناصحين المخلصين المنوط بنصحهم خير الدارين أحقاء بأن يتحسروا ويتحسر عليهم، وقد تلهف على حالهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين، ويجوز أن يكون تحسراً من الله عليهم على سبيل الاستعارة لتعظيم ما جنوه على أنفسهم ويؤيده قراءة ‏{‏يا حسرتا‏}‏ ونصبها لطولها بالجار المتعلق بها، وقيل بإضمار فعلها والمنادى محذوف، وقرئ «يا حسرة العباد» بالإِضافة إلى الفاعل أو المفعول، و«يا حسرة» بالهاء على العباد بإجراء الوصل مجرى الوقف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 38‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ ‏(‏31‏)‏ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ‏(‏32‏)‏ وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ‏(‏33‏)‏ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ‏(‏34‏)‏ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ‏(‏35‏)‏ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏36‏)‏ وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ‏(‏37‏)‏ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ يَرَوْاْ‏}‏ ألم يعلموا وهو معلق عن قوله‏:‏ ‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون‏}‏ لأن ‏{‏كَمْ‏}‏ لا يعمل فيها ما قبلها وإن كانت خبرية لأن أصلها الاستفهام‏.‏ ‏{‏أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ‏}‏ بدل من ‏{‏كَمْ‏}‏ على المعنى أي ألم يروا كثرة إهلاكنا من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم، وقرئ بالكسر على الاستئناف‏.‏

‏{‏وَإِنْ كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ‏}‏ يوم القيامة للجزاء، و‏{‏إِن‏}‏ مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة و«ما» مزيدة للتأكيد، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة ‏{‏لَّمّاً‏}‏ بالتشديد بمعنى إلا فتكون إن نافية وجميع فعيل بمعنى مفعول، و‏{‏لَدَيْنَا‏}‏ ظرف له أو ل ‏{‏مُحْضَرُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَءَايَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة‏}‏ وقرأ نافع بالتشديد‏.‏ ‏{‏أحييناها‏}‏ خبر ل ‏{‏الأرض‏}‏، والجملة خبر ‏{‏ءَايَةً‏}‏ أو صفة لها إذ لم يرد بها معينة وهي الخبر أو المبتدأ والآية خبرها، أو استئناف لبيان كونها ‏{‏ءايَةً‏}‏‏.‏ ‏{‏وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً‏}‏ جنس الحب‏.‏ ‏{‏فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ‏}‏ قدم الصلة للدلالة على أن الحب معظم ما يؤكل ويعاش به‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا فِيهَا جنات مّن نَّخِيلٍ وأعناب‏}‏ من أنواع النخل والعنب، ولذلك جمعهما دون الحب فإن الدال على الجنس مشعر بالاختلاف ولا كذلك الدال على الأنواع، وذكر النخيل دون التمور ليطابق الحب والأعناب لاختصاص شجرها بمزيد النفع وآثار الصنع‏.‏ ‏{‏وَفَجَّرْنَا فِيهَا‏}‏ وقرئ بالتخفيف، والفجر والتفجير كالفتح والتفتيح لفظاً ومعنى‏.‏ ‏{‏مِنَ العيون‏}‏ أي شيئاً من العيون، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، أو ‏{‏العيون‏}‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ مزيدة عند الأخفش‏.‏

‏{‏لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ‏}‏ ثمر ما ذكر وهو الجنات، وقيل الضمير لله تعالى على طريقة الالتفات والإِضافة إليه لأن الثمر بخلقه، وقرأ حمزة والكسائي بضمتين وهو لغة فيه، أو جمع ثمار وقرئ بضمة وسكون‏.‏ ‏{‏وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ‏}‏ عطف على الثمر والمراد ما يتخذ منه كالعصير والدبس ونحوهما، وقيل ‏{‏مَا‏}‏ نافية والمراد أن الثمر بخلق الله لا بفعلهم، ويؤيد الأول قراءة الكوفيين غير حفص بلا هاء فإن حذفه من الصلة أحسن من غيرها‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ أمر بالشكر من حيث أنه إنكار لتركه‏.‏

‏{‏سبحان الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا‏}‏ الأنواع والأصناف‏.‏ ‏{‏مِمَّا تُنبِتُ الأرض‏}‏ من النبات والشجر‏.‏ ‏{‏وَمِنْ أَنفُسِهِمْ‏}‏ الذكر والأنثى‏.‏ ‏{‏وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ وأزواجاً مما لم يطلعهم الله تعالى عليه ولم يجعل لهم طريقاً إلى معرفته‏.‏

‏{‏وَءَايَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار‏}‏ نزيله ونكشفه عن مكانه مستعار من سلخ الجلد والكلام في إعرابه ما سبق‏.‏ ‏{‏فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ‏}‏ داخلون في الظلام‏.‏

‏{‏والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا‏}‏ لحد معين ينتهي إليه دورها، فشبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره، أو لكبد السماء فإن حركتها فيه يوجد فيها بطء بحيث يظن أن لها هناك وقفة قال‏:‏

وَالشَّمْسُ حَيْرَى لَهَا بِالجَوِّ تَدْوِيمُ *** أو لاستقرار لها على نهج مخصوص، أو لمنتهى مقدر لكل يوم من المشارق والمغارب فإن لها في دورها ثلثمائة وستين مشرقاً ومغرباً، تطلع كل يوم من مطلع وتغرب من مغرب ثم لا تعود إليهما إلى العام القابل، أو لمنقطع جريها عند خراب العالم‏.‏ وقرئ «لا مستقر لها» أي لا سكون فإنها متحركة دائماً و«لا مستقر» على أن «لا» بمعنى ليس‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ الجري على هذا التقدير المتضمن للحكم التي تكل الفطن عن إحصائها‏.‏ ‏{‏تَقْدِيرُ العزيز‏}‏ الغالب بقدرته على كل مقدور‏.‏ ‏{‏العليم‏}‏ المحيط علمه بكل معلوم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 47‏]‏

‏{‏وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ‏(‏39‏)‏ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ‏(‏40‏)‏ وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏41‏)‏ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ‏(‏42‏)‏ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ ‏(‏43‏)‏ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ‏(‏44‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏45‏)‏ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏46‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏والقمر قدرناه‏}‏ قدرنا مسيره‏.‏ ‏{‏مَنَازِلَ‏}‏ أو سيره في منازل وهي ثمانية وعشرون‏:‏ السرطان، البطين، الثريا، الدبران، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرف، الجبهة، الزبرة، الصرفة، العواء، السماك، الغفر، الزبانا، الإِكليل، القلب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعدالسعود، سعد الأخبية، فرغ الدلو المقدم، فرغ الدلو المؤخر، الرشا، وهو بطن الحوت ينزل كل ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه، فإذا كان في آخر منازله وهو الذي يكون فيه قبيل الإِجتماع دق واستقوس، وقرأ الكوفيون وابن عامر ‏{‏والقمر‏}‏ بنصب الراء‏.‏ ‏{‏حتى عَادَ كالعرجون‏}‏ كالشمراخ المعوج، فعلون من الانعراج وهو الاعوجاج، وقرئ ‏{‏كالعرجون‏}‏ وهما لغتان كالبزيون والبزيون‏.‏ ‏{‏القديم‏}‏ العتيق وقيل ما مر عليه حول فصاعداً‏.‏

‏{‏لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَا‏}‏ يصح لها ويتسهل‏.‏ ‏{‏أَن تدْرِكَ القمر‏}‏ في سرعة سيره فإن ذلك يخل بتكون النبات وتعيش الحيوان، أو في آثاره ومنافعه أو مكانه بالنزول إلى محله، أو سلطانه فتطمس نوره، وإيلاء حرف النفي ‏{‏الشمس‏}‏ للدلالة على أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها‏.‏ ‏{‏وَلاَ اليل سَابِقُ النهار‏}‏ يسبقه فيفوته ولكن يعاقبه، وقيل المراد بهما آيتاهما وهما النيران، وبالسبق سبق القمر إلى سلطان الشمس فيكون عكساً للأول وتبديل الإِدراك بالسبق لأنه الملائم لسرعة سيره‏.‏ ‏{‏وَكُلٌّ‏}‏ وكلهم والتنوين عوض عن المضاف إليه، والضمير للشموس والأقمار فإن اختلاف الأحوال يوجب تعدداً ما في الذات، أو للكواكب فإن ذكرهما مشعر بهما‏.‏ ‏{‏فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏ يسيرون فيه بانبساط‏.‏

‏{‏وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ‏}‏ أولادهم الذين يبعثونهم إلى تجاراتهم، أو صبيانهم ونساءهم الذين يستصحبونهم، فإن الذرية تقع عليهن لأنهن مزارعها‏.‏ وتخصيصهم لأن استقرارهم في السفن أشق وتماسكهم فيها أعجب، وقرأ نافع وابن عامر ‏{‏ذرياتهم‏}‏‏.‏ ‏{‏فِى الفلك المشحون‏}‏ المملوء، وقيل المراد فلك نوح عليه الصلاة والسلام، وحمل الله ذرياتهم فيها أنه حمل فيها آباءهم الأقدمين وفي أصلابهم هم وذرياتهم، وتخصيص الذرية لأنه أبلغ في الامتنان وأدخل في التعجب مع الإِيجاز‏.‏

‏{‏وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ‏}‏ من مثل الفلك‏.‏ ‏{‏مَا يَرْكَبُونَ‏}‏ من الإِبل فإنها سفائن البر أو من السفن والزوارق‏.‏

‏{‏وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ‏}‏ فلا مغيث لهم يحرسهم عن الغرق، أو فلا إغاثة كقولهم أتاهم الصريخ‏.‏ ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ‏}‏ ينجون من الموت به‏.‏

‏{‏إِلاَّ رَحْمَةً مّنَّا وَمَتَاعاً‏}‏ إلا لرحمة ولتمتيع بالحياة‏.‏ ‏{‏إلى حِينٍ‏}‏ زمان قدر لآجالهم‏.‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ‏}‏ الوقائع التي خلت أو العذاب المعد في الآخرة، أو نوازل السماء ونوائب الأَرض كقوله‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السماء والأرض‏}‏ أو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة أو عكسه، أو ما تقدم من الذنوب وما تأخر‏.‏

‏{‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ لتكونوا راجين رحمة الله، وجواب إذا محذوف دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءَايَةٍ مّنْ ءايات رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ‏}‏ كأنه قال وإذا قيل لهم اتقوا العذاب أعرضوا لأنهم اعتادوه وتمرنوا عليه‏.‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله‏}‏ على محاويجكم‏.‏ ‏{‏قَالَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ بالصانع يعني معطلة كانوا بمكة‏.‏ ‏{‏لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ‏}‏ تهكماً بهم من إقرارهم به وتعليقهم الأمور بمشيئته‏.‏ ‏{‏أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ الله أَطْعَمَهُ‏}‏ على زعمكم، وقيل قاله مشركو قريش حين استطعمهم فقراء المؤمنين إيهاماً بأن الله تعالى لما كان قادراً أن يطعمهم ولم يطعمهم فنحن أحق بذلك، وهذا من فرط جهالتهم فإن الله يطعم بأسباب منها حث الأغنياء على إطعام الفقراء وتوفيقهم له‏.‏ ‏{‏إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ حيث أمرتمونا ما يخالف مشيئة الله، ويجوز أن يكون جواباً من الله لهم أو حكاية لجواب المؤمنين لهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 53‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏48‏)‏ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ‏(‏49‏)‏ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏50‏)‏ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ‏(‏51‏)‏ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏52‏)‏ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ يعنون وعد البعث‏.‏

‏{‏مَا يَنظُرُونَ‏}‏ ما ينتظرون‏.‏ ‏{‏إِلاَّ صَيْحَةً واحدة‏}‏ هي النفخة الأولى‏.‏ ‏{‏تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ‏}‏ يتخاصمون في متاجرهم ومعاملاتهم لا يخطر ببالهم أمرها كقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ وأصله يختصمون فسكنت التاء أدغمت ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين، وقرأ أبو بكر بكسر الياء للاتباع، وقرأ ابن كثير وورش وهشام بفتح الخاء على إلقاء حركة التاء إليه، وأبو عمرو وقالون به مع الإِختلاس وعن نافع الفتح فيه والإِسكان والتشديد وكأنه جوز الجمع بين الساكنين إذا كان الثاني مدغماً، وقرأ حمزة ‏{‏يَخِصّمُونَ‏}‏ من خصمه إذا جادله‏.‏

‏{‏فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً‏}‏ في شيء من أمورهم‏.‏ ‏{‏وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ فيروا حالهم بل يموتون حيث تبغتهم‏.‏

‏{‏وَنُفِخَ فِى الصور‏}‏ أي مرة ثانية وقد سبق تفسيره في سورة «المؤمنين»‏.‏ ‏{‏فَإِذَا هُم مّنَ الأجداث‏}‏ من القبور جمع جدث وقرئ بالفاء‏.‏ ‏{‏إلى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ‏}‏ يسرعون وقرئ بالضم‏.‏

‏{‏قَالُواْ ياويلنا‏}‏ وقرئ «يا ويلتنا»‏.‏ ‏{‏مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا‏}‏ وقرئ «من أهبنا» من هب من نومه إذا انتبه ومن هبنا بمعنى أهبنا، وفيه ترشيح ورمز وإشعار بأنهم لاختلاط عقولهم يظنون أنهم كانوا نياماً، و‏{‏مَن بَعَثَنَا‏}‏ و«من هبنا» على الجارة والمصدر، وسكت حفص وحده عليها سكتة لطيفة والوقف عليها في سائر القراءات حسن‏.‏ ‏{‏هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون‏}‏ مبتدأ وخبر و‏{‏مَا‏}‏ مصدرية، أو موصولة محذوفة الراجع، أو ‏{‏هذا‏}‏ صفة ل ‏{‏مَّرْقَدِنَا‏}‏ و‏{‏مَا وَعَدَ‏}‏ خبر محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف أي ‏{‏هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون‏}‏، أو ‏{‏مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون‏}‏ حق وهو من كلامهم، وقيل جواب للملائكة أو المؤمنين عن سؤالهم، معدول عن سننه تذكيراً لكفرهم وتقريعاً لهم عليه وتنبيهاً بأن الذي يهمهم هو السؤال عن البعث دون الباعث كأنهم قالوا‏:‏ بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث وأرسل إليكم الرسل فصدقوكم وليس الأمر كما تظنون، فإنه ليس يبعث النائم فيهمكم السؤال عن الباعث وإنما هو البعث الأكبر ذو الأهوال‏.‏

‏{‏إِن كَانَتْ‏}‏ ما كانت الفعلة‏.‏ ‏{‏إِلاَّ صَيْحَةً واحدة‏}‏ هي النفخة الأخيرة، وقرئت بالرفع على كان التامة‏.‏ ‏{‏فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ‏}‏ بمجرد تلك الصيحة وفي كل ذلك تهوين أمر البعث والحشر واستغناؤهما عن الأسباب التي ينوطان بها فيما يشاهدونه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 65‏]‏

‏{‏فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏54‏)‏ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ‏(‏55‏)‏ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ‏(‏56‏)‏ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ‏(‏57‏)‏ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ‏(‏58‏)‏ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ‏(‏59‏)‏ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏60‏)‏ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏61‏)‏ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ‏(‏62‏)‏ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏63‏)‏ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏64‏)‏ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ حكاية لما يقال لهم حينئذ تصويراً للموعود وتمكيناً له في النفوس وكذا قوله‏:‏

‏{‏إِنَّ أصحاب الجنة اليوم فِى شُغُلٍ فاكهون‏}‏ متلذذون في النعمة من الفكاهة، وفي تنكير ‏{‏شُغُلٍ‏}‏ وإبهامه تعظيم لما هم فيه من البهجة والتلذذ، وتنبيه على أنه أعلى ما يحيط به الأفهام ويعرب عن كنهه الكلام، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ‏{‏فِى شُغُلٍ‏}‏ بالسكون، ويعقوب في رواية «فكهون» للمبالغة وهما خبران ل ‏{‏إِنْ‏}‏، ويجوز أن يكون ‏{‏فِى شُغُلٍ‏}‏ صلة ‏{‏لفاكهون‏}‏، وقرئ «فكهون» بالضم وهو لغة كنطس ونطس «وفاكهين» «وفكهين» على الحال من المستكهن في الظرف، و‏{‏شُغُلٍ‏}‏ بفتحتين وفتحة وسكون والكل لغات‏.‏

‏{‏هُمْ وأزواجهم فِى ظلال‏}‏ جمع ظل كشعاب أو ظلة كقباب ويؤيده قراءة حمزة والكسائي في «ظلل»‏.‏ ‏{‏على الأرائك‏}‏ على السرر المزينة‏.‏ ‏{‏مُتَّكِئُونَ‏}‏ و‏{‏هُمْ‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏فِى ظلال‏}‏، و‏{‏على الأرائك‏}‏ جملة مستأنفة أو خبر ثان أو ‏{‏مُتَّكِئُونَ‏}‏ والجاران صلتان له، أو تأكيد للضمير في شغل أو في فاكهون، وعلى الأرائك متكئون خبر آخر لإِن وأزواجهم عطف على ‏{‏هُمْ‏}‏ للمشاركة في الأحكام الثلاثة، و‏{‏فِى ظلال‏}‏ حال من المعطوف والمعطوف عليه‏.‏

‏{‏لَهُمْ فِيهَا فاكهة وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ‏}‏ ما يدعون به لأنفسهم يفتعلون من الدعاء كاشتوى واجتمل إذا شوى وجمل لنفسه، أو ما يتداعونه كقولك ارتموه بمعنى تراموه، أو يتمنون من قولهم ادع علي ما شئت بمعنى تمنه علي، أو ما يدعونه في الدنيا من الجنة ودرجاتها و‏{‏مَا‏}‏ موصولة أو موصوفة مرتفعة بالابتداء، و‏{‏لَهُمْ‏}‏ خبرها وقوله‏:‏

‏{‏سلام‏}‏ بدل منها أو صفة أخرى، ويجوز أن يكون خبرها أو خبر محذوف أو مبتدأ محذوف الخبر أي ولهم سلام، وقرئ بالنصب على المصدر أو الحال أي لهم مرادهم خالصاً‏.‏ ‏{‏قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ‏}‏ أي يقول الله أو يقال لهم قولاً كائناً من جهته، والمعنى أن الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة أو بغير واسطة تعظيماً لهم وذلك مطلوبهم ومتمناهم، ويحتمل نصبه على الاختصاص‏.‏

‏{‏وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون‏}‏ وانفردوا عن المؤمنين وذلك حين يسار بهم إلى الجنة كقوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ‏}‏ وقيل اعتزلوا من كل خير أو تفرقوا في النار فإن لكل كافر بيتاً ينفرد به لا يرى ولا يرى‏.‏

‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان‏}‏ من جملة ما يقال لهم تقريعاً وإلزاماً للحجة، وعهده إليهم ما نصب لهم من الحجج العقلية والسمعية الآمرة بعبادته الزاجرة عن عبادة غيره وجعلها عبادة الشيطان، لأنه الآمر بها والمزين لها، وقرئ ‏{‏أَعْهَدْ‏}‏ بكسر حرف المضارعة و«أحهد» و«أحد» على لغة بني تميم‏.‏

‏{‏إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏ تعليل للمنع عن عبادته بالطاعة فيها يحملهم عليه‏.‏

‏{‏وَأَنِ اعبدونى‏}‏ عطف على ‏{‏أَن لاَّ تَعْبُدُواْ‏}‏‏.‏ ‏{‏هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ‏}‏ إشارة إلى ما عهد إليهم أو إلى عبادته، فالجملة استئناف لبيان المقتضي للعهد بشقيه أو بالشق الآخر، والتنكير للمبالغة والتعظيم، أو للتبعيض فإن التوحيد سلوك بعض الطريق المستقيم‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ‏}‏ رجوع إلى بيان معاداة الشيطان مع ظهور عداوته ووضوح إضلاله لمن له أدنى عقل ورأي والجبل الخلق، وقرأ يعقوب بضمتين وابن كثير وحمزة والكسائي بهما مع تخفيف اللام وابن عامر وأبو عمرو بضمة وسكون مع التخفيف والكل لغات، وقرئ ‏{‏جِبِلاًّ‏}‏ جمع جبلة كخلقة وخلق و«جيلاً» واحد الأجيال‏.‏

‏{‏هذه جَهَنَّمُ التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏اصلوها اليوم بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏ ذوقوا حرها اليوم بكفركم في الدنيا‏.‏

‏{‏اليوم نَخْتِمُ على أفواههم‏}‏ نمنعها عن الكلام‏.‏ ‏{‏وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ بظهور آثار المعاصي عليها ودلالتها على أفعالها، أو إنطاق الله إياها وفي الحديث ‏"‏ إنهم يجحدون ويخاصمون فيختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وأرجلهم ‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 75‏]‏

‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ‏(‏66‏)‏ وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ ‏(‏67‏)‏ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ‏(‏68‏)‏ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ ‏(‏69‏)‏ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏70‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ‏(‏71‏)‏ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ‏(‏72‏)‏ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ‏(‏73‏)‏ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏74‏)‏ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ‏}‏ لمسحنا أعينهم حتى تصير ممسوحة‏.‏ ‏{‏فاستبقوا الصراط‏}‏ فاستبقوا إلى الطريق الذي اعتادوا سلوكه، وانتصابه بنزع الخافض أو بتضمين الاستباق معنى الابتدار، أو جعل المسبوق إليه مسبوقاً على الاتساع أو بالظرف‏.‏ ‏{‏فأنى يُبْصِرُونَ‏}‏ الطريق وجهة السلوك فضلاً عن غيره‏.‏

‏{‏وَلَوْ نَشَاء لمسخناهم‏}‏ بتغيير صورهم وإبطال قواهم‏.‏ ‏{‏على مكانتهم‏}‏ مكانهم بحيث يجمدون فيه، وقرأ أبو بكر «مكاناتهم»‏.‏ ‏{‏فَمَا استطاعوا مُضِيّاً‏}‏ ذهاباً‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَرْجِعُونَ‏}‏ ولا رجوعاً فوضع الفعل موضعه للفواصل، وقيل ‏{‏لاَ يَرْجِعُونَ‏}‏ عن تكذيبهم، وقرئ ‏{‏مُضِياً‏}‏ بإتباع الميم الضاد المكسورة لقلب الواو ياء كالمعتى والمعتي ومضياً كصبي، والمعنى أنهم بكفرهم ونقضهم ما عهد إليهم أحقاء بأن يفعل بهم ذلك لكنا لم نفعل لشمول الرحمة لهم واقتضاء الحكمة إمهالهم‏.‏

‏{‏وَمَن نّعَمّرْهُ‏}‏ ومن نطل عمره‏.‏ ‏{‏نُنَكِّسْهُ فِى الخلق‏}‏ نقلبه فيه فلا يزال يتزايد ضعفه وانتقاض بنيته وقواه عكس ما كان عليه بدء أمره، وابن كثير على هذه يشبع ضمة الهاء على أصله، وقرأ عاصم وحمزة «نُنَكّسْهُ» من التنكيس وهو أبلغ والنكس أشهر‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ أن من قدر على ذلك قدر على الطمس والمسخ فإنه مشتمل عليهما ويزاد غير أنه على تدرج، وقرأ نافع برواية ابن عامر وابن ذكوان ويعقوب بالتاء لجري الخطاب قبله‏.‏

‏{‏وَمَا علمناه الشعر‏}‏ رد لقولهم إن محمداً شاعر أي ما علمناه الشعر بتعليم القرآن، فإنه لا يماثله لفظاً ولا معنى لأنه غير مقفى ولا موزون، وليس معناه ما يتوخاه الشعراء من التخيلات المرغبة والمنفرة ونحوها‏.‏ ‏{‏وَمَا يَنبَغِي لَهُ‏}‏ وما يصح له الشعر ولا يتأتى له إن أراد قرضه على ما خبرتم طبعه نحواً من أربعين سنة، وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏

‏"‏ أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ‏"‏ وقوله‏:‏

هَلٌ أَنَتَ إلا إِصبعٌ دَميت *** وفي سَبِيلِ الله مَا لقيتِ

اتفاقيٌ من غير تكلف وقصد منه إلى ذلك، وقد يقع مثله كثيراً في تضاعيف المنثورات على أن الخليل ما عد المشطور من الرجز شعراً، هذا وقد روي أنه حرك الباءين وكسر التاء الأولى بلا إشباع وسكن الثانية، وقيل الضمير لل ‏{‏قُرْءانَ‏}‏ أي وما يصح للقرآن أن يكون شعراً‏.‏ ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ‏}‏ عظة وإرشاد من الله تعالى‏.‏ ‏{‏وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ‏}‏ وكتاب سماوي يتلى في المعابد، ظاهر أنه ليس من كلام البشر لما فيه من الإِعجاز‏.‏

‏{‏لّيُنذِرَ‏}‏ القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم، ويؤيده قراءة نافع وابن عامر ويعقوب بالتاء‏.‏ ‏{‏مَن كَانَ حَيّاً‏}‏ عاقلاً فهما فإن الغافل كالميت، أو مؤمناً في علم الله تعالى فإن الحياة الأبدية بالإِيمان، وتخصيص الإِنذار به لأنه المنتفع به‏.‏ ‏{‏وَيَحِقَّ القول‏}‏ وتجب كلمة العذاب‏.‏

‏{‏عَلَى الكافرين‏}‏ المصرين على الكفر، وجعلهم في مقابلة من كان حياً إشعاراً بأنهم لكفرهم وسقوط حجتهم وعدم تأملهم أموات في الحقيقة‏.‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا‏}‏ مما تولينا إحداثه ولم يقدر على إحداثه غيرنا، وذكر الأيدي وإسناد العمل إليها استعارة تفيد مبالغة في الاختصاص، والتفرد بالإِحداث‏.‏ ‏{‏أنعاما‏}‏ خصها بالذكر لما فيها من بدائع الفطرة وكثرة المنافع‏.‏ ‏{‏فَهُمْ لَهَا مالكون‏}‏ متملكون لها بتمليكنا إياها، أو متمكنون من ضبطها والتصرف فيها بتسخيرنا إياها لهم قال‏:‏

أَصْبَحْتُ لاَ أَحْمِلُ السِّلاَحَ وَلا *** أَمْلِكُ رَأْسَ البَعِيرِ إِنْ نَفَرَا

‏{‏وذللناها لَهُمْ‏}‏ وصيرناها منقادة لهم‏.‏ ‏{‏فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ‏}‏ مركوبهم، وقرئ «ركوبتهم»، وهي بمعناه كالحلوب والحلوبة، وقيل جمعه وركوبهم أي ذو ركوبهم أو فمن منافعها ‏{‏رَكُوبُهُمْ‏}‏‏.‏ ‏{‏وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ‏}‏ أي ما يأكلون لحمه‏.‏

‏{‏وَلَهُمْ فِيهَا منافع‏}‏ من الجلود والأصواف والأوبار‏.‏ ‏{‏ومشارب‏}‏ من اللبن جمع مشرب بمعنى الموضع، أو المصدر وأمال الشين ابن عامر وحده برواية هشام‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ نعم الله في ذلك إذ لولا خلقه لها وتذليله إياها كيف أمكن التوسل إلى تحصيل هذه المنافع المهمة‏.‏

‏{‏واتخذوا مِن دُونِ الله ءَالِهَةً‏}‏ أشركوها به في العبادة بعد ما رأوا منه تلك القدرة الباهرة والنعم المتظاهرة، وعلموا أنه المتفرد بها‏.‏ ‏{‏لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ‏}‏ رجاء أن ينصروهم فيما حزبهم من الأمور والأمر بالعكس لأنهم‏.‏

‏{‏لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ‏}‏ لآلهتهم‏.‏ ‏{‏جُندٌ مٌّحْضَرُونَ‏}‏ معدون لحفظهم والذب عنهم، أو ‏{‏مُحْضَرُونَ‏}‏ أثرهم في النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 83‏]‏

‏{‏فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏76‏)‏ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ‏(‏77‏)‏ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ‏(‏78‏)‏ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ‏(‏79‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ‏(‏80‏)‏ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ‏(‏81‏)‏ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏82‏)‏ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏فَلاَ يَحْزُنكَ‏}‏ فلا يهمنك، وقرئ بضم الياء من أحزن‏.‏ ‏{‏قَوْلُهُمْ‏}‏ في الله بالإِلحاد والشرك، أو فيك بالتكذيب والتهجين‏.‏ ‏{‏إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ فنجازيهم عليه وكفى ذلك أن تتسلى به، وهو تعليل للنهي على الاستئناف ولذلك لو قرئ ‏{‏أَنَاْ‏}‏ بالفتح على حذف لام التعليل جاز‏.‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ‏}‏ تسلية ثانية بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر، وفيه تقبيح بليغ لإِنكاره حيث عجب منه وجعله إفراطاً في الخصومة بينا ومنافاة لجحود القدرة على ما هو أهون مما عمله في بدء خلقه، ومقابلة النعمة التي لا مزيد عليها وهي خلقه من أخس شيء وأمهنه شريفاً مكرماً بالعقوق والتكذيب‏.‏ روي «أن أبي بن خلف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم بال يفتته بيده وقال‏:‏ أترى الله يحيي هذا بعد ما رم، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ نعم ويبعثك ويدخلك النار فنزلت ‏"‏ وقيل معنى ‏{‏فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ‏}‏ فإذا هو بعد ما كان ماء مهيناً مميز منطيق قادر على الخصام معرب عما في نفسه‏.‏

‏{‏وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً‏}‏ أمراً عجيباً وهو نفي القدرة على إحياء الموتى، أو تشبيهه بخلقه بوصفه بالعجز عما عجزوا عنه‏.‏ ‏{‏وَنَسِىَ خَلْقَهُ‏}‏ خلقنا إياه‏.‏ ‏{‏قَالَ مَن يُحيِيِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ‏}‏ منكراً إياه مستبعداً له، والرميم ما بلي من العظام، ولعله فعيل بمعنى فاعل من رم الشيء صار اسماً بالغلبة ولذلك لم يؤنث، أو بمعنى مفعول من رممته‏.‏ وفيه دليل على أن العظم ذو حياة فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء‏.‏

‏{‏قُلْ يُحْيِيهَا الذى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ فإن قدرته كما كانت لامتناع التغير فيه والمادة على حالها في القابلية اللازمة لذاتها‏.‏ ‏{‏وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ‏}‏ يعلم تفاصيل المخلوقات بعلمه وكيفية خلقها، فيعلم أجزاء الأشخاص المتفتتة المتبددة أصولها وفصولها ومواقعها وطريق تمييزها، وضم بعضها إلى بعض على النمط السابق وإعادة الأعراض والقوى التي كانت فيها أو إحداث مثلها‏.‏

‏{‏الذي جَعَلَ لَكُم مّنَ الشجر الأخضر‏}‏ كالمرخ والعفار‏.‏ ‏{‏نَارًا‏}‏ بأن يسحق المرخ على العفار وهما خضراوان يقطر منهما الماء فتنقدح النار‏.‏ ‏{‏فَإِذَا أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ‏}‏ لا تشكون فإنها نار تخرج منه، ومن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها بكيفيتها كان أقدر على إعادة الغضاضة فيما كان غضاً فيبس وبلي، وقرئ من «الشجر الخضراء» على المعنى كقوله ‏{‏فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون‏}‏ ‏{‏أَوَ لَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والأرض‏}‏ مع كبر جرمهما وعظم شأنهما‏.‏ ‏{‏بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم‏}‏ في الصغر والحقارة بالإِضافة إليهما، أو مثلهم في أصول الذات وصفاتها وهو المعاد، وعن يعقوب «يقدر»‏.‏

‏{‏بلى‏}‏ جواب من الله تعالى لتقرير ما بعد النفي مشعر بأنه لا جواب سواه‏.‏ ‏{‏وَهُوَ الخلاق العليم‏}‏ كثير المخلوقات والمعلومات‏.‏

‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ‏}‏ إِنَّمَا شأنه‏.‏ ‏{‏إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن‏}‏ أي تكون‏.‏ ‏{‏فَيَكُونُ‏}‏ فهو يكون أي يحدث، وهو تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة قطعاً لمادة الشبهة، وهو قياس قدرة الله تعالى على قدرة الخلق، ونصبه ابن عامر والكسائي عطفاً على ‏{‏يِقُولُ‏}‏‏.‏

‏{‏فسبحان الذى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَئ‏}‏ تنزيه عما ضربوا له، وتعجيب عما قالوا فيه معللاً بكونه مالكاً للأمر كله قادراً على كل شيء‏.‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ وعد ووعيد للمقرين والمنكرين، وقرأ يعقوب بفتح التاء‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ كنت لا أعلم ما روي في فضل يس كيف خصت به فإذا أنه بهذه الآية‏.‏ وعنه عليه الصلاة والسلام «إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس، وأيما مسلم قرأها يريد بها وجه الله غفر الله له وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة، وأيما مسلم قرئ عنده إذا نزل به ملك الموت سورة يس نزل بكل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفاً يصلون عليه ويستغفرون له، ويشهدون غسله ويشيعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه، وأيما مسلم قرأ يس وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يجيئه رضوان بشربة من الجنة فيشربها وهو على فراشه فيقبض روحه وهو ريان، ويمكث في قبره وهو ريان، ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان»‏.‏

سورة الصافات

مكية وآيها مائة واثنتان وثمانون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ‏(‏1‏)‏ فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ‏(‏2‏)‏ فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ‏(‏3‏)‏ إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ‏(‏4‏)‏ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ‏(‏5‏)‏ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ‏(‏6‏)‏ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ‏(‏7‏)‏ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ‏(‏8‏)‏ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ‏(‏9‏)‏ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏والصافات صَفَّا * فالزجرات زَجْراً * فالتاليات ذِكْراً‏}‏ أقسم بالملائكة الصافين في مقام العبودية، على مراتب باعتبارها تفيض عليهم الأنوار الإِلهية، منتظرين لأمر الله الزاجرين الأجرام العلوية والسفلية بالتدبير المأمور به فيها، أو الناس عن المعاصي بإلهام الخير، أو الشياطين عن التعرض لهم التالين آيات الله وجلايا قدسه على أنبيائه وأولياءه، أو بطوائف الأجرام المرتبة كالصفوف المرصوصة والأرواح المدبرة لها والجواهر القدسية المستغرقة في بحار القدس ‏{‏يُسَبّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ‏}‏ أو بنفوس العلماء الصافين في العبادات الزاجرين عن الكفر والفسوق بالحجج والنصائح التالين آيات الله وشرائعه، أو بنفوس الغزاة الصافين في الجهاد الزاجرين الخيل، أو العدو التالين ذكر الله لا يشغلهم عنه مباراة العدو والعطف لاختلاف الذوات، أو الصفات والفاء لترتيب الوجود كقوله

‏:‏

يا لهف زيابة للحارث الص *** ابح فالغانم فالآيب

فإن الصف كمال والزجر تكميل بالمنع عن الشر، أو الإِشاقة إلى قبول الخير والتلاوة إفاضته أو الرتبة كقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ رحم الله المحلقين فالمقصرين ‏"‏ غير أنه لفضل المتقدم على المتأخر وهذا للعكس، وأدغم أبو عمرو وحمزة التاءات فيما يليها لتقاربها فإنها من طرف اللسان وأصول الثنايا‏.‏

‏{‏إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ‏}‏ جواب للقسم والفائدة فيه تعظيم المقسم به وتأكيد المقسم عليه على ما هو المألوف في كلامهم، وأما تحقيقه فبقوله تعالى‏.‏

‏{‏رَبُّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ المشارق‏}‏ فإن وجودها وانتظامها على الوجه الأكمل مع إمكان غيره دليل على وجود الصانع الحكيم ووحدته على ما مر غير مرة، ‏{‏وَرَبُّ‏}‏ بدل من واحد أو خبر ثان أو خبر محذوف وما بينهما يتناول أفعال العباد فيدل على أنها من خلقه، و‏{‏المشارق‏}‏ مشارق الكواكب أو مشارق الشمس في السنة وهي ثلاثمائة وستون مشرقاً، تشرق كل يوم في واحد وبحسبها تختلف المغارب، ولذلك اكتفى بذكرها مع أن الشروق أدل على القدرة وأبلغ في النعمة، وما قيل إنها مائة وثمانون إنما يصح لو لم تختلف أوقات الانتقال‏.‏

‏{‏إِنَّا زَيَّنَّا السماء الدنيا‏}‏ القربى منكم‏.‏ ‏{‏بِزِينَةٍ الكواكب‏}‏ بزينة هي ‏{‏الكواكب‏}‏ والإِضافة للبيان، ويعضده قراءة حمزة ويعقوب وحفص بتنوين «زينة» وجر ‏{‏الكواكب‏}‏ على إبدالها منه، أو بزينة هي لها كأضوائها وأوضاعها، أو بأن زينا ‏{‏الكواكب‏}‏ فيها على إضافة المصدر إلى المفعول فإنها كما جاءت اسماً كالليقة جاءت مصدراً كالنسبة ويؤيده قراءة أبي بكر بالتنوين، والنصب على الأصل أو بأن زينتها ‏{‏الكواكب‏}‏ على إضافته إلى الفاعل وركوز الثوابت في الكرة الثامنة وما عدا القمر من السيارات في الست المتوسطة بينها وبين السماء الدنيا أن تحقق لم يقدح في ذلك، فإن أهل الأرض يرونها بأسرها كجواهر مشرقة متلألئة على سطحها الأزرق بأشكال مختلفة

‏{‏وَحِفْظاً‏}‏ منصوب بإضمار فعله، أو العطف على «زينة» باعتبار المعنى كأنه قال إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء الدنيا وحفظاً‏.‏ ‏{‏مّن كُلّ شيطان مَّارِدٍ‏}‏ خارج من الطاعة برمي الشهب‏.‏

‏{‏لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى‏}‏ كلام مبتدأ لبيان حالهم بعد ما حفظ السماء عنهم، ولا يجوز جعله صفة لكل شيطان فإنه يقتضي أن يكون الحفظ من شياطين لا يسمعون، ولا علة للحفظ على حذف اللام كما في جئتك أن تكرمني ثم حذف أن وأهدرها كقوله‏:‏

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى *** فإن اجتماع ذلك منكر والضمير ل ‏{‏كُلٌّ‏}‏ باعتبار المعنى، وتعدية السماع بإلى لتضمنه معنى الإِصغاء مبالغة لنفيه وتهويلاً لما يمنعهم عنه، ويدل عليه قراءة حمزة والكسائي «وحفص» بالتشديد من التسمع وهو طلب السماع و‏{‏الملأ الأعلى‏}‏ الملائكة وأشرافهم‏.‏ ‏{‏وَيُقْذَفُونَ‏}‏ ويرمون‏.‏ ‏{‏مِن كُلّ جَانِبٍ‏}‏ من جوانب السماء إذا قصدوا صعوده‏.‏

‏{‏دُحُوراً‏}‏ علة أي للدحور وهو الطرد أو مصدر لأنه والقذف متقاربان، أو حال بمعنى مدحورين أو منزوع عنه الباء جمع دحر، وهو ما يطرد به ويقويه القراءة بالفتح وهو يحتمل أيضاً أن يكون مصدراً كالقبول أو صفة له أي قذفاً دحوراً‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابُ‏}‏ أي عذاب آخر‏.‏ ‏{‏وَاصِبٌ‏}‏ دائم أو شديد وهو عذاب الآخرة‏.‏

‏{‏إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة‏}‏ استثناء من واو ‏{‏يَسْمَعُونَ‏}‏ ومن بدل منه، والخطف الاختلاس والمراد اختلاس كلام الملائكة مسارقة ولذلك عرف الخطفة، وقرئ «خَطِفَ» بالتشديد مفتوح الخاء ومكسروها وأصلهما اختطف‏.‏ ‏{‏فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ‏}‏ أتبع بمعنى تبع، والشهاب ما يرى كأن كوكباً انقض، وما قيل إنه بخار يصعد إلى الأثير فيشتعل فتخمين إن صح لم يناف ذلك إذ ليس فيه ما يدل على أنه ينقض من الفلك ولا في قوله ‏{‏وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين‏}‏ فإن كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض وزينة للسماء من حيث إنه يرى كأنه على سطحه، ولا يبعد أن يصير الحادث كما ذكر في بعض الأوقات رجماً لشياطين تتصعد إلى قرب الفلك للتسمع، وما روي أن ذلك حدث بميلاد النبي عليه الصلاة والسلام إن صح فلعل المراد كثرة وقوعه، أو مصيره ‏{‏دُحُوراً‏}‏‏.‏ واختلف في أن المرجوم يتأذى به فيرجع أو يحترق به لكن قد يصيب الصاعد مرة وقد لا يصيب كالموج لراكب السفينة ولذلك لا يرتدعون عنه رأساً، ولا يقال إن الشيطان من النار فلا يحترق، لأنه ليس من النار الصرف كما أن الإِنسان ليس من التراب الخالص مع أن النار القوية إذا استولت على الضعيفة استهلكتها‏.‏ ‏{‏ثَاقِبٌ‏}‏ مضيء كأنه يثقب الجو بضوئه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 23‏]‏

‏{‏فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ ‏(‏11‏)‏ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ‏(‏12‏)‏ وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ ‏(‏13‏)‏ وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ‏(‏14‏)‏ وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ‏(‏16‏)‏ أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ‏(‏17‏)‏ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ ‏(‏18‏)‏ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ ‏(‏19‏)‏ وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏20‏)‏ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏21‏)‏ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ‏(‏22‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏فاستفتهم‏}‏ فاستخبرهم والضمير لمشركي مكة أو لبني آدم‏.‏ ‏{‏أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا‏}‏ يعني ما ذكر من الملائكة والسماء والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشهب الثواقب، و‏{‏مِنْ‏}‏ لتغليب العقلاء ويدل عليه إطلاقه ومجيئه بعد ذلك، وقراءة من قرأ «أم من عددنا»، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا خلقناهم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ‏}‏ فإنه الفارق بينهم وبينها لا بينهم وبين من قبلهم كعاد وثمود، وإن المراد إثبات المعاد ورد استحالته والأمر فيه بالإِضافة إليهم وإلى من قبلهم سواء، وتقريره أن استحالة ذلك إما لعدم قابلية المادة ومادتهم الأصلية هي الطين اللازب الحاصل من ضم الجزء المائي إلى الجزء الأرضي وهما باقيان قابلان للانضمام بعد، وقد علموا أن الإِنسان الأول إنما تولد منه إما لاعترافهم بحدوث العالم أو بقصة آدم وشاهدوا تولد كثير من الحيوانات منه بلا توسط مواقعة، فلزمهم أن يجوزوا إعادتهم كذلك، وإما لعدم قدرة الفاعل ومن قدر على خلق هذه الأشياء قدر على ما لا يعتد به بالإِضافة إليها سيما ومن ذلك بدؤهم أولاً وقدرته ذاتية لا تتغير‏.‏

‏{‏بَلْ عَجِبْتَ‏}‏ من قدرة الله تعالى وإنكارهم للبعث‏.‏ ‏{‏وَيَسْخُرُونَ‏}‏ من تعجبك وتقريرك للبعث، وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء أي بلغ كمال قدرتي وكثرة خلائقي أن تعجبت منها، وهؤلاء لجهلهم يسخرون منها‏.‏ أو عجبت من أن ينكر البعث ممن هذه أفعاله وهم يسخرون ممن يجوزه‏.‏ والعجب من الله تعالى إما على الفرض والتخييل أو على معنى الاستعظام اللازم له فإنه روعة تعتري الإِنسان عند استعظامه الشيء، وقيل إنه مقدر بالقول أي‏:‏ قال يا محمد بل عجبت‏.‏

‏{‏وَإِذَا ذُكّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ‏}‏ وإذا وعظوا بشيء لا يتعظون به، أو إذا ذكر لهم ما يدل على صحة الحشر لا ينتفعون به لبلادتهم وقلة فكرهم‏.‏

‏{‏وَإِذَا رَأَوْاْ ءايَةً‏}‏ معجزة تدل على صدق القائل به‏.‏ ‏{‏يَسْتَسْخِرُونَ‏}‏ يبالغون في السخرية ويقولون إنه سحر، أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ إِن هذا‏}‏ يعنون ما يرونه‏.‏ ‏{‏إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر سحريته‏.‏

‏{‏أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ‏}‏ أصله انبعث إذا متنا فبدلوا الفعلية بالاسمية وقدموا الظرف وكرروا الهمزة مبالغة في الإِنكار، وإشعاراً بأن البعث مستنكر في نفسه وفي هذه الحالة أشد استنكاراً، فهو أبلغ من قراءة ابن عامر بطرح الهمزة الأولى وقراءة نافع والكسائي ويعقوب بطرح الثانية‏.‏

‏{‏أَوَ ءَابَاؤُنَا الأولون‏}‏ عطف على محل ‏{‏إِن‏}‏ واسمها، أو على الضمير في «مبعوثون» فإنه مفصول منه بهمزة الاستفهام لزيادة الاستبعاد لبعد زمانهم، وسكن نافع برواية قالون بن عامر والواو على معنى الترديد‏.‏

‏{‏قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ داخرون‏}‏ صاغرون، وإنما اكتفى به في الجواب لسبق ما يدل على جوازه وقيام المعجز على صدق المخبر عن وقوعه، وقرئ «قال» أي الله أو الرسول وقرأ الكسائي وحده «نِعْمَ» بالكسر وهو لغة فيه‏.‏

‏{‏فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ واحدة‏}‏ جواب شرط مقدر أي إذا كان ذلك فإنما البعثة ‏{‏زَجْرَةٌ‏}‏ أي صيحة واحدة، وهي النفخة الثانية من زجر الراعي غنمه إذا صاح عليها وأمرها في الإِعادة كأمر ‏{‏كُنْ‏}‏ في الإِبداء ولذلك رتب عليها‏.‏ ‏{‏فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ‏}‏ فإذا هم قيام من مراقدهم أحياء يبصرون، أو ينتظرون ما يفعل بهم‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ ياويلنا هذا يَوْمُ الدين‏}‏ اليوم الذي نجازى بأعمالنا وقد تم به كلامهم وقوله‏:‏

‏{‏هذا يَوْمُ الفصل الذى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ‏}‏ جواب الملائكة، وقيل هو أيضاً من كلام بعضهم لبعض والفصل القضاء، أو الفرق بين المحسن والمسيء‏.‏

‏{‏احشروا الذين ظَلَمُواْ‏}‏ أمر الله للملائكة، أو أمر بعضهم لبعض بحشر الظلمة من مقامهم إلى الموقف‏.‏ وقيل منه إلى الجحيم‏.‏ ‏{‏وأزواجهم‏}‏ وأشباههم عابد الصنم مع عبدة الصنم وعابد الكوكب مع عبدته كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثلاثة‏}‏ أو نساءهم اللاتي على دينهم أو قرناءهم من الشياطين‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ من الأصنام وغيرها زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم، وهو عام مخصوص بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى‏}‏ الآية، وفيه دليل على أن ‏{‏الذين ظَلَمُواْ‏}‏ هم المشركون‏.‏ ‏{‏فاهدوهم إلى صراط الجحيم‏}‏ فعرفوهم طريقاً ليسلكوها‏.‏